هل يمكننا إثبات أننا نعيش في محاكاة؟
قد تبدو الفكرة غريبة بعض الشيء، فمجرد التفكير في ذلك قد يجعل دماغ الإنسان يقف عاجزا أمام ما يبحث عنه، وربما من المستحيل_في المستقبل القريب على الأقل_إيجاد دليل دامغ يحول فرضية المحاكاة إلى نظرية ترتكز على الأدلة.
ما المقصود بفرضية المحاكاة؟
كان الفيلسوف السويدي “نيك بوستروم” أول من تكلم عن هذه الفرضية، في العام 2003، وهو ما أثار جدلا واسعا في ذلك الوقت. وقد استند بوستروم في فكرته على التطور التكنولوجي المتسارع للقدرة الحاسوبية، وهي ما يمكن أن يشير إلى احتمال أن يكون عالمنا بالكامل غير حقيقي، وأن نكون مجرد مجموعة من الأكواد في حاسوب خارق لحضارة ما، أو ربما لبشر يعيشون في المستقبل قاموا بتصميم هذا العالم الافتراضي لدراسة سلوك أجدادهم، أو لأسباب أخرى نجهلها.
تقوم الفرضية على فكرة أن كل ما يحيط بنا هو مجرد وهم مصمم ، كألعاب الحاسوب، وأننا عبارة عن أكواد برمجية لا أكثر، وحتى وعينا يمكن أن يكون مجرد وهم تم تحميله ضمن النظام الذي يشكلنا.
ما هي الركائز التي تقوم عليها الفرضية؟
هناك العديد من الأمور التي يمكن لنا أن نتناولها على اعتبارها دليلا قد يشير إلى صحة الفرضية وسأذكر بعضها:
-الثوابت الكونية:
هناك ما يقدر ب(26) قيمة أساسية لا يمكن للكون أن يسير بشكله الحالي من دون وجودها، وقد سميت بالثوابت لأنها أشبه بقوانين صارمة لا يمكن التلاعب بها، كسرعة الضوء، وزمن بلانك، والصفر المطلق، وكتلة الكوارك العلوي، وغيرها.. ولكن لماذا توجد هذه القوانين في النظريات كحقائق رياضية نقيّة للكون!
على سبيل المثال، إذا قمنا بمراقبة ثابت البنية الدقيقة Fine Structure Constant، الذي يصف القوة الكهرومغناطيسية، التي تؤثر على الجسيمات المشحونة مثل الإلكترونات والبروتونات، وهو رقم قريب جدا من الكسر 1/137، فسنجد بأن أقل تغيير في هذا الثابت، ولو بمجرد كسر بسيط من قيمته الحالية، سيجعل الذرات غير قادرة إطلاقا على التشكّل. فالنسبة 1/137 هي قيمة ضئيلة، وبالتالي فإن تأثير القوة الكهرومغناطيسية ضعيف، ونتيجة لذلك تُشكِّل الجسيمات المشحونة ذرات معظم مساحاتها فارغة، تدور إلكتروناتها في مدارات بعيدة عن النواة، فيسهل أن تنفصل عن الذرة، وهو ما يؤدي إلى تكوين الروابط الكيميائية.
ولو كانت هذه النسبة أقرب إلى 1/138 فلن تتمكن النجوم من تخليق الكربون، ولن تتشكل الحياة كما نعرفها.
-التناقضات الكمومية:
وهي كثيرة ومنها مبدأ عدم اليقين لهايزنبرج Heisenberg Uncertainty Principle وغيرها، ولكني أخترت التراكب الكميQuantum superposition كمثال عليها. وهو أحد المبادئ الأساسية في ميكانيكا الكم ويعني أن الجسيم (مثل الإلكترون أو الفوتون) يمكن أن يكون في حالتين أو أكثر في نفس الوقت.
لنجعل الفكرة أكثر بساطة:
تخيل أنك وضعت قطعة نقدية على الطاولة أمامك، سترى بأنها إما أن تكون على وجه “الكتابة” أو على وجه “الصورة” ولا خيار أخر، لكن في العالم الكمي، يمكن أن تكون القطعة في حالة بين “الكتابة” و”الصورة” في نفس الوقت، حتى تقوم بالنظر إليها، فتختار القطعة وجهًا واحدًا فقط.
هذا السلوك الغريب يحدث فقط على مستوى الجسيمات الصغيرة جدًا (مثل الذرات والإلكترونات)، وهو ما يجعل ميكانيكا الكم مختلفة عن العالم الذي نعرفه.
الآن ستسأل عما يربط التراكب الكمي بفرضية المحاكاة. دعني أبسط الأمر لك:
في عالم البرمجة هناك مبدأ يسمى “الحوسبة عند الطلب“ (lazy evaluation)، حيث يتم حساب شيء ما فقط عندما يكون هناك حاجة له. وإذا كنا نعيش في محاكاة، يمكن تفسير التراكب الكمي على أنه وسيلة لتوفير موارد المحاكاة. بمعنى أن الحالات المختلفة للجسيم لا تُحسم (collapse) إلا عندما نقوم بمراقبتها، تمامًا كما لا تُحمل مشاهد اللعبة على الكمبيوتر إلا عند دخول اللاعب لها. مثلا: في ألعاب الفيديو، المشاهد البعيدة أو التي لم يُركّز عليها تُعرض بجودة منخفضة أو مجرد “احتماليات” بدلاً من التفاصيل الكاملة. يمكننا أن نتخيل أن التراكب الكمي يعمل بطريقة مشابهة، فالجسيمات تكون في حالات متعددة لأنها ليست بحاجة إلى التفصيل التام إلا عند التفاعل مع “اللاعب” (أي نحن أو أدوات قياسنا).
لربما يكون صانع المحاكاة قد قرر أن التفاصيل، على المستوى دون الذري، ليست مهمة لتجربة البشر اليومية، وبالتالي قام بتصميم المحاكاة بحيث تبقى هذه التفاصيل في حالة احتمالية (تراكب) إلى أن نحتاجها. وهو ما يفسر الفوضوية الظاهرة في الظواهر الكمية كأنها نتيجة عدم اكتمال البرمجة على هذا المستوى.
وعليه فإن التراكب الكمي قد يكون نتيجة لتصميم ذكي لتوفير موارد الحوسبة. هذه الفوضوية الظاهرة على المستوى الكمي يمكن أن تعكس حدود المحاكاة أو خيارات صانعها لتبسيط التفاصيل التي لا تؤثر على تجربتنا المعاشة.
-مفارقة فيرمي:
ويمكن اختصارها بالسؤال التالي:
إذا كان الكون بهذه الضخامة والعمر الطويل جدا، فلماذا لم نجد بعد أي دليل على وجود حضارات ذكية خارج الأرض؟ علما أن الكون يحتوي على مليارات المجرات وعدد هائل من الكواكب الصالحة للحياة، كما أن عمر الكون كبير بما يكفي لظهور ونمو حضارات متقدمة. فأين الجميع؟ ولماذا لم نجد دلائل على حياة ذكية أخرى في الكون؟ إذا كنا في محاكاة، فقد تكون “الحياة الذكية” مقتصرة على الأرض فقط لأنها العنصر المركزي في البرنامج.
-الظواهر الغير قابلة للتفسير:
هناك العديد من الظواهر التي تتحدى المنطق، وهو ما يمكن تفسيره على أنه ثغرات أو أخطاء في نظام المحاكاة. ومنها:
1- الديجافو Déjà Vu:
وهو شعور يختبره معظم البشر، فتشعر وكأنك قد عشت هذه اللحظة من قبل. وهو إلى الآن غير مفسر وهناك العديد من الفرضيات حول أسبابه.
2- نقاط التفرد في الثقوب السوداء singularities:
وهي نقاط لا تعمل فيها قوانين الفيزياء كما نعرفها، بل إنها تسير بشكل مختلف تماما، وكأنها مناطق غير مبرمجة (في حال كنا نعيش في محاكاة).
3- تأثير مانديلا Mandela Effect:
وهي ظاهرة يتفق فيها مجموعة من الناس على أن حدثا معينا قد حدث في الماضي، مع أن هذا الحدث لم يحدث في الحقيقة، أو حدث بطريقة مختلفة تماما عما يتذكرون. وقد حملت الظاهرة اسمها هذا بعد أن توفي نيلسون مانديلا، حيث أن الكثيرين حول العالم كانوا يقسمون على أن مانديلا توفي في السجن في الثمانينيات من القرن الماضي، مؤكدين على أنهم قد شاهدوا جنازته على التلفاز بأعينهم. مع أنه في الحقيقة خرج من السجن وأصبح رئيسا لجنوب إفريقيا وتوفي في عام 2013. وبعد التوسع في دراسة الأمر وجد الباحثون الكثير من الأمور التي يتذكرها الناس حول العالم بشكل مختلف عن الواقع. والغريب أنهم يتذكرونها جميعا بنفس الطريقة (التي لم تحدث بها في الأصل).
أخيرا:
تظل كل هذه الأفكار مجرد افتراضات ولا يمكن إثباتها أو نفيها، فحتى لو كانت حياتنا عبارة عن محاكاة فمن المستحيل علينا الخروج منها أو معرفة مصممها، وكما قلت في روايتي “بين الذات والوجود”: من المستحيل أن نعرف ما كتب على الصندوق إذا ما كنا بداخله”. وتبقى الفكرة الأهم هي التجربة التي نعيشها، بغض النظر عما إذا كانت حقيقية أم افتراضية.