التراكب الكمي: عندما يسقط الواقع

هل يمكنك التخيل بأنك في موقعين مختلفين في نفس اللحظة؟ أو أن تقوم بعملين، ربما متناقضين، في الوقت نفسه؟ قد يبدو هذا مستحيلًا تماما أمام ما نألفه في حياتنا اليومية، ولكن في عالم ميكانيكا الكم، يعتبر هذا جزء من الطبيعة الأساسية للأشياء، الأصغر من الذرة، كالإلكترونات والفوتونات. وتعرف هذه الظاهرة العجيبة بالتراكب الكمي.

ما هو التراكب الكمي؟

التراكب الكمي يمكن توضيحه عبر القول بأن الجسيمات الصغيرة، مثل الإلكترونات أو الفوتونات، يمكن أن تكون في أكثر من حالة في الوقت نفسه. ولتبسيط ذلك يمكنك تخيل رمي عملة معدنية وسقوطها إما على الوجه أو على الظهر. لكن في العالم الكمي، يمكن أن تكون العملة في حالة تراكب، أي أنها “وجه وظهر” في نفس الوقت، إلى أن تقوم بالنظر إليها، فتنهار حالة التراكب وتأخذ شكلا واحد (الوجه أو الظهر). وبناءا عليه يمكن القول بأن الوعي البشري هو ما يحد من حالة التراكب، ويجبرها على اتخاذ شكل واحد يكون مفهوما بالنسبة لنا.

كيف يعمل التراكب الكمي؟

المثال الأفضل هنا لشرح عمل التراكب الكمي هو التجربة الفكرية الشهيرة، المعروفة بقطة شرودنغر:
تخيل قطة داخل صندوق مغلق يحتوي على آلية معينة قادرة على ترك القطة حية أو قتلها، وفقا لحدث كمي عشوائي، مثل تحلل ذرة مشعة.
قبل أن تقوم بفتح الصندوق ورؤية ما حدث، سوف تكون القطة في حالة تراكب. أي أنها حية وميتة في الوقت نفسه.
فقط عندما تفتح الصندوق وتلاحظها، تنهار حالة التراكب، حيث ستجد القطة إما حية أو ميتة.
ربما يكون هذا غريبا، لكنه يعكس كيف تتصرف الجسيمات الكمية، التي تبقى في حالة تراكب (أي في كل الاحتمالات معا) حتى يتم قياسها أو مشاهدتها.

لماذا يعد ذلك غريبا؟

• التراكب الكمي لا يشبه العالم الذي نعرفه: ففي حياتنا العادية نرى الأشياء في حالة واحدة فقط، وليس في حالات متعددة.

• الاعتماد على وعي المراقب: فحالة الجسيم تتحدد فقط عندما نقيسها، مما يطرح سؤالا وجوديا: هل الواقع موجود إذا لم نكن ننظر إليه!؟

التراكب في حياتنا اليومية

من البديهي أن نسأل: إذا كان التراكب الكمي حقيقيا، فلماذا لا يمكننا رؤيته في العالم حولنا؟ والسبب هنا هو أن التراكب يحدث فقط على مستوى الجسيمات الصغيرة جدا، أو على الأقل هناك فقط يمكننا أن نلاحظه، وبمجرد أن تتفاعل هذه الجسيمات مع المحيط، تنهار حالتها الكمومية إلى حالة واحدة واضحة، وهو ما نراه في حياتنا اليومية.

لماذا هو مهم؟

التراكب الكمي يعدو كونه مجرد فكرة فلسفية غريبة؛ حيث يشكل الأساس للعديد من التقنيات المتطورة، منها:

• الحوسبة الكمية: تعتمد أجهزة الكمبيوتر الكمية على التراكب الكمي لمعالجة كميات كبيرة جدا من البيانات في وقت واحد.  فأجهزة الكمبيوتر العادية تستخدم وحدات “0” و”1″، بينما يمكن للحواسيب الكمية استخدام كيوبتات يمكن أن تكون “0” و”1″ معا بفضل التراكب. ولفهم الأمر تخيل أن تضع فأر أمام متاهة، سيضطر الفأر لتجربة العديد من المسارات قبل أن ينجح في عبور المتاهة، وهذا ما يحدث في الحواسيب العادية أثناء معالجة البيانات. أما في الحوسبة الكمومية فسيتمكن الفأر من تجربة جميع الاحتمالات في نفس الوقت، وإيجاد المخرج بسرعة أكبر.

• الاتصالات الفائقة السرعة: يمكن للتراكب الكمي أن يساعد بشكل فعال في بناء أنظمة اتصال تتميز بسرعة فائقة، وعدم القدرة على الاختراق.

يمكن القول:

إن التراكب الكمي ليس فقط أحد أغرب ظواهر الكون وأكثرها إذهالا.  بل هو أيضا ظاهرة تفتح المجال للكثير من الجدل حول طبيعة الواقع، ومدى تأثير الوعي على شكل الواقع ومساراته.

عدي عبود

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *