تعتبر نظرية التطور، التي أسس لها تشارلز داروين في القرن التاسع عشر، واحدة من أكثر النظريات الراسخة في العلم الحديث. وتقوم النظرية على فكرة التغير مع الزمن (Descent with Modification)، حيث تنشأ الأنواع الجديدة نتيجة تعديلات تدريجية، على المدى الطويل، في الصفات الوراثية للكائنات الحية. وتكون هذه التعديلات نتيجة ما يسمى بالانتقاء الطبيعي، وهي عملية يتم عبرها اختيار بقاء الكائنات ذات الصفات التي تؤهلها لتكون قابلة للتكيف مع البيئة، وبالتالي يتم تمرير هذه الصفات للأجيال القادمة.
هل هناك أدلة علمية تدعم التطور؟
رغم رفضها في البداية، تم دعم نظرية التطور مع تقدم العلم عبر عدة مجالات:
• السجل الأحفوري:
يظهر السجل الأحفوري العديد من الأمثلة عن الانتقال التدريجي بين الأنواع عبر الزمن، مثل التحول من الديناصورات إلى الطيور. أدلة كهذه تُظهر تغييرات طفيفة تمت على مدى عشرات ملايين السنين وأدت إلى ظهور أنواع جديدة.
• البيولوجيا الجزيئية:
أظهرت الدراسات على عينات مختلفة من الحمض النووي أن جميع الكائنات الحية تشترك في جينات أساسية تعود إلى سلف مشترك. ومن أبرز الأمثلة على ذلك، اكتشاف التشابه الجيني الكبير بين البشر والشمبانزي، وهو ما يدعم فكرة الأصل المشترك.
• التشريح المقارن:
هناك العديد من الأعضاء المتشابهة بين الكائنات المختلفة، مثل عظام الأطراف في الطيور والبشر، وهو ما يشير إلى أن هذه الكائنات قد تطورت من سلف مشترك ولكنها تأقلمت بحسب بيئاتها لأداء وظائف مختلفة.
• التطور المُلاحظ:
تم تسجيل تغيرات تطورية في العديد من الكائنات الحية خلال فترة زمنية قصيرة، مثل تطور مقاومة المضادات الحيوية في بعض أنواع البكتيريا أو تغير لون العث الصناعي في بريطانيا أثناء الثورة الصناعية.
ما الذي تخبرنا به الأبحاث الحديثة؟
تؤكد الأبحاث الحديثة أن التطور ليس مجرد عملية خطية. بل يمكن أن يكون على شكل تطور مفاجئ (Punctuated Equilibrium)، حيث تحدث تغييرات كبيرة خلال فترات قصيرة نسبيا تليها فيما بعد فترات استقرار طويلة. وإضافة إلى ذلك، أظهرت بعض الدراسات الجينومية الحديثة أن الطفرات العشوائية وإعادة ترتيب الجينات يمكن أن يكون لها دور كبير في خلق تنوع وراثي يُعتبر مادة خام للتطور.
هل هناك حلقات مفقودة في تطور البشر؟
هناك العديد من الأحافير المكتشفة، والتي تمثل حلقات الوصل بين البشر والقردة العليا، وتعد هذه الأحافير من أهم الأدلة في علم الأنثروبولوجيا التطورية، إذ تساعد على معرفة الخطوات الرئيسية التي مر بها البشر في رحلة تطورهم. ومن أبرز الأحافير التي توفر رؤى واضحة حول ذلك:
• أسترالوبيثيكوس سيديبا (Australopithecus sediba):
تم اكتشاف بقايا هذه الأحفورة في جنوب إفريقيا عام 2008، وبدراستها تبين أنها تحمل خصائص تشريحية وسيطة بين البشر والقردة العليا. وقد أكدت الدراسات إلى أن هذا النوع يظهر تكيفات واضحة مع المشي على قدمين، وهو ما يظهره العمود الفقري الخاص بالأحفورة، مع احتفاظه بقدرات تجعله قادر على التسلق تماما كما القردة. ويعتبر هذا النوع أحد الأمثلة القوية على مبدأ التطور التدريجي/60/.
• ليتل فوت (Little Foot):
وقد مثلت هذه الأحفورة، التي سبق وأن تم اكتشافها في جنوب إفريقيا، إحدى أكثر البقايا البشرية القديمة حفظا. حيث تُظهر تفاصيل الهيكل العظمي الخاص بها بوضوح قدرة صاحبها على المشي بوضعية شبه مستقيمة، ما يجعلها دليلا غير قابل للشك على التغير الحاصل من حركات القردة العليا إلى البشر/61/.
• هومو ناليدي (Homo naledi):
اكتشف هذا النوع في كهف “رايزينغ ستار” بجنوب إفريقيا. وكان المزيج الفريد، الذي جمعه هذا النوع بين الخصائص البدائية والحديثة، هو السبب في أهميته الكبيرة. فقد حمل دماغا صغيرا مع تكيفه على القدرة على المشي المنتصب. وتشير هذه الخصائص إلى التنوع الواسع في أشكال التطور البشري/59_60/.
في النهاية:
تُظهر هذه الاكتشافات كيفية انتقال الأنواع المبكرة من التكيفات التي تؤهلها لتسلق الأشجار وصولا إلى المشي المنتصب، مما يعد خطوة أساسية ومهمة في تطور البشر. كما تسلط الضوء وتطرح العديد من الأسئلة فيما يخص التباين الجيني والتشريحي بين الأنواع المختلفة وإلى أي مدى يمكن للبيئة التأثير على تطور كل نوع.
المصادر العلمية:
• الدراسة المنشورة في Biological Sciences اختبار نظرية التطور من خلال التحليل الجيني للكائنات الحية الحديثة.
• مقالة في Evolution: Education and Outreach تناقش صحة التطور كحقيقة علمية وأساليب استمرارية البحث في آلياته.
• مجلة Nature، نشرت العديد من الدراسات حول أسترالوبيثيكوس سيديبا وتفاصيل تشريحها/60/.
• دراسة منشورة في مجلة Journal of Human Evolution حول الهيكل العظمي لـ”ليتل فوت” ودلالاته/60/.
• تقارير من ScienceDaily وNational Geographic حول هومو ناليدي واكتشافاته الجديدة/59_60/.
عدي عبود